كيف بإمكاني أن أمضي كما أنا دون أن يؤرقني ذلك الحادث هناك؟.
كيف أعتاد «الاعتياد» بهذا الشكل لأصبح مع الأيام مسخاً أو ورقة في مهب ريح الحياة؟.
كيف أجرؤ أن أقرر صباحاً أن أفطر ثم أختار ما أفطر، ثم أسير وكأنه لا شيء يحدث؟.
كيف تواتيني الجرأة أن أجلس في صالة بيتي أتنقل بين قنوات التليفزيون قبل أن أستقر على فيلم عربي أو أجنبي، أشاهده وفي يدي كوب «المذلة» أسميه «الشاي».
كيف أجرؤ أن أذهب إلى المقهى، ألعب «الطاولة» أو يلعبون بي على الطاولة وأضحك .. نعم أضحك وفي الأفق لا شيء سوى الأحزان؟.
كيف قَبِلنا بكل هذا الموت .. بينما في «غزة» كل الحياة؟.
ألوم نفسي كثيراً على تلك الساعات التي تمضي من يومي دون أن أبكي لما يحدث في غزة .. وألوم نفسي أكثر على كل تلك السنوات التي مضت وفلسطين عندي ليست سوى نبأ في نشرة الأخبار، وصورة اخترتها لتكون «بروفايل» صفحتي على «فيس بوك» لنافذة الأقصى، لعلي أكفر بها عن سيئاتي.
حتى الآن، وأنا أكتب هذه السطور، لا أدري لماذا وبماذا تنتهي، وهل هي أيضاً مجرد «زكاة» عن هذا الخذلان والجبن واللامبالاة التي أعيشها حتى إن عقدت حاجبي ليلاً على المقهى وادعيت الحزن، وتشاركت أنا والأصدقاء حماستنا الزائفة، وعدنا من المقهى مدججين بسلاح «البوستات» وقنابل «التغريدات» وطلقات الشير واللايكات.
كل النور هناك .. كل البهاء هناك .. في فلسطين .. في غزة الأبية.. في أولئك الشجعان الذين يطلبون الموت أكثر من الحياة، في تلك الأم التي زفت وليدها إلى الجنة وتدفع بالمزيد من إخوته إلى الشهادة .. في ذلك الأب المكلوم الواقف كالجبل يتحدى الموت والبارود والصلف والغرور .. في ذلك الأخ الذي فقد كل من لديه وما لديه، لكن لا زال لديه ما هو أكثر منا .. لديه العزة والإباء .. يعد أهله أن يلحق بهم، غير عابيء بالحياة .. يا الله .. ما أولئك الذين أنجبتهم غزة .. أي بطن حملت هؤلاء .. كيف تربوا .. كيف عاشوا .. كيف باتوا وهم يموتون أجمل الأحياء.
كيف يفعلون ما يفعلون .. كيف يخرجون من بين الأنقاض وكأنهم بُعثوا من جديد .. كيف يدفنون أهليهم، ويعودون ليجدوهم أحياء ليكروا على العدو من جديد .. كيف يهدم العدو فوقهم المسجد فيظلهم المسجد ليصلوا تحته .. كيف يقفون غير عابئين بالطائرات ولا بالصواريخ ولا بالاحتلال .. كيف باتوا وهم بشر، أعتى الجبال؟.
أتدرون .. إن الأمل أيضاً قادم من هناك .. من عند أولئك الذين يهتفون:
فليحرقوا كل النخيل بساحنا
سنُطل من فوق النخيل نخيلا
فليهدموا كل المآذن فوقنا
نحن المآذن فاسمع التهليلا
لكِ الله يا غزة .. لكِ الله يا فلسطين .. لكم الله يا أغلى من فينا وما فينا .. نستودعكم الله ونحملكم في الصدور فخراً وعزة ومجداً، وبإذن الله وبكم أنتم ستعود القدس لنا، وهم أيضاً سيكونون لنا.